قد يستهين الكثير بأصحاب المهن الهامشية ويعاملونهم على أنّهم لا دور لهم في المجتمع، وقد لا يعيرونهم أي إهتمام، فهم طبقة لا تتمتع بالتقييم من المجتمع، وكل ذلك دون أي ذنب! غير أنّ الحياة وضيق العيش قد إضطرهم لذلك فهم يكدحون من أجل اللقمة التي قد لا تكون ميسورة في كل يوم، وهذا بالضبط ما قد يكون لقيه مهاتير محمد أو أسوأ؛ فقد نشأ وسط أسرة فقيرة محدودة الدخل له تسعة أشقاء هو أصغرهم، ووالده يعمل معلماً في مدرسة إبتدائية بمرتب بالكاد يكفي لمعيشتهم؛ حتى أنّه لم يتمكن من شراء دراجة لابنه الصغير مهاتير ليذهب بها إلى المدرسة الثانوية، ولكنّ هذا لم يكن سبباً مقنعاً له ليتوقف عن الدراسة؛ فالذي يقود الأمّة لابدّ أن يجتاز الكثير من الإمتحانات ويتعرض لأصعب الظروف في الحياة، لذا عمل مهاتير بائعاً لفطائر الموز والوجبات الخفيفة الأخرى لتوفير الدخل لأسرته، فواصل دراسته والتحق بالمدارس العامة قبل أن يواصل تعليمه في كلية السلطان عبد الحميد في ألور سيتار، ثمّ التحق بعد ذلك بكلية الملك إدوارد السابع الطبية (التي أصبحت جامعة سنغافورة الوطنية) في سنغافورة، وقد كان ناشطاً سياسياً وأصبح رئيساً لإتحاد الطلاب المسلمين بالجامعة، وبعد تخرجه خدم مهاتير في الحكومة الماليزية الإتحادية كضابط خدمات طبية، وبعدها فتح عيادته الخاصة في ألور سيتار ومنح نصف وقته للكشف المجاني على الفقراء، فازدادت شعبيته وانتخب عضوًا في البرلمان عن دائرة “كوتا سيتار سيلاتان” ولكنه خسر مقعده في الجولة التالية.
بعدها كتب مهاتير كتابه الشهير “معضلة الملايو” الذي انتقد خلاله شعب المالايو واتهمهم بالكسل، وقد مُنع الكتاب من التداول، فشخص بهذه الجرأة حتماً سيتهم بالجنون، ولكن الحظر رفع بعدما أصبح مهاتير رئيسًا للوزراء في عام 1981.
وفي 16 يوليو 1981م كانت بداية للأعوام الذهبية لماليزيا عندما أصبح مهاتير محمد رئيسًا لوزراء ماليزيا وكان ذلك عندما استقال حسين أون من منصبه لأسباب صحية،تاركاً شؤون البلاد لنائبه ” مهاتير” والذي أصبح أول رئيس وزراء في البلاد ينتمي لأسرة فقيرة، حيث كان رؤساء الوزارات الثلاثة الأول أعضاء في الأسرة الملكية أو من عائلات النخبة، ومن هنا بدأت النهضة.
بداية النهضة:
تولى مهاتير منصب رئيس الوزراء على بلد تعادل مساحته حوالي 330.000 كيلومتر مربع، يعاني سكانه من الصراعات الدينية حيث يوجد به 18 ديانة مختلفة كما أنّ سكانه من أصول مختلفة، ويعملون في زراعة أشجار المطاط
والموز ، والأناناس ، وصيد الأسماك، فالبلد ليس به نفط إلا القليل ، ومتوسط دخل الفرد السنوي أقل من 1000 دولار، ويبلغ معدل الفقر فيه 70%، ولكن كل هذه المشاكل لم تكن أعذاراً للتوقف عن النهضة، فتوجّه مهاتير وفكره الإسلامي دعاه ليقول كلمته الشهيرة: “إذا كنا جميعًا رجال دين فمن سيقوم بتصنيع الطائرات والصواريخ والسيارات وأدوات التكنولوجيا الحديثة؟ فيجب أن يكون هناك علماء في التجارة وفي العلوم التقنية الحديثة وفي كل مجالات المعرفة، ولكن على أساس من التعاليم الإسلامية”.
لذا إهتمّ بالسلم التعليمي منذ مرحلة ما قبل المدرسة الابتدائية، فجعل هذه المرحلة جزءًا من النظام الاتحادي للتعليم، واشترط أن تكون جميع دور رياض الأطفال، وما قبل المدرسة مسجلة لدى وزارة التربية، وتلتزم بمنهج تعليمي مقرر من الوزارة، بجانب إضافة مواد تُنمي المعاني الوطنية، وتغرز روح الانتماء للتعليم الابتدائي، أي في السنة السادسة من عمر الطفل.
وفي المرحلة الثانوية أدخل بجانب العلوم والآداب مواد خاصة بالمجالات المهنية والفنية، والتي تتيح للطلاب فرصة تنمية وصقل مهاراتهم، فضلا عن إنشاء الكثير من معاهد التدريب المهني، التي تستوعب طلاب المدارس الثانوية وتؤهلهم لدخول سوق العمل في مجال الهندسة الميكانيكية والكهربائية وتقنية البلاستيك، مما يعني دخل إضافي للمواطن وقضاء على البطالة، فمن لا يرغب في الدراسة الجامعية يمكنه دخول سوق العمل بعد الثانوية.
أما على المستوى الجامعي فقد قامت العديد من الجامعات، منها الجامعة الإسلامية التي صنفت ضمن أهم خمسمائة جامعة في العالم، وتم التركيز على الأبحاث والبعثات العلمية للدول المتقدمة خاصة تلك التي كانت إلى اليابان فقد استفادت ماليزيا من التقدم العلمي الياباني بصورة كبيرة.
النهضة الإقتصادية:
كانت خطة مهاتير واضحة بكل شفافية للشعب مما أكسبه ثقتهم وشجعهم للعمل لأجل النهضة، فقد سعى أن تكون ماليزيا في عام 2020 رابع قوة اقتصادية في آسيا بعد الصين، واليابان، والهند، وهو ما سمي بخطة (عشرين عشرين)، فبدأ بتنمية الصادرات لإنعاش الإقتصاد فماليزيا لا تملك النفط ولكنها تملك أشجار المطاط، فمادة المطاط ذات رواج عالمي وأهمية كبرى في الصناعة، فتم التركيز عليها لتكون على قائمة الصادرات الماليزية، كما تمّ التركيز على الصناعة والسياحة كمصادر للدخل القومي.
وفي النشاط الإستثماري، فتح الباب بضوابط شفافة أمام الاستثمارات المحلية والأجنبية لبناء البرجين التوأم “بتروناس” وفي ذلك الوقت بضمان 65 مركزاً تجارياً في العاصمة كوالالمبور وحدها، وأنشأ البورصة التي وصل حجم تعاملها اليومي إلى ملياري دولار يومياً، كذلك أنشأ عاصمة إدارية جديدة putrajaya “بتروجايا” بجانب العاصمة التجارية “كوالالمبور” ومن المخطط أن تستوعب 7 ملايين نسمة عام 2020، فتم بناء مطارين وعشرات الطرق السريعة تسهيلاً للسائحين والمقيمين والمستثمرين الذين أتوا من الصين والهند والخليج ومن كل بقاع الأرض، يبنون آلاف الفنادق.
التنمية الصناعية:
تملك ماليزيا القوي البشرية التي في إنتظار فرصة سانحة للعمل، كما أنّ المدارس الحرفية أكسبتهم المهارة اليدوية في التصنيع؛ فدخلت ماليزيا مرحلة تصنيع الأسمنت والحديد والصلب، بل وتصنيع السيارات فقامت شركة صناعة السيارات الماليزية الوطنية (بريتون)
ثم التوسع في صناعة النسيج وصناعة الإلكترونيات، والتي صارت تساهم بثلثي القيمة المضافة للقطاع الصناعي، وتستوعب 40% من العمالة، ليحققوا في عام 1996 طفرة تجاوزت 46% عن العام السابق بفضل المنظومة الشاملة والقفزة الهائلة في الأجهزة الكهربائية، والحاسبات الإلكترونية.
إزدهار السياحة:
لم تكن ماليزيا وجهة للسياحة، ولجعلها قبلة للسياح تمّ تحويل المعسكرات اليابانية التي كانت موجودة من أيام الحرب العالمية الثانية إلى مناطق سياحية تشمل جميع أنواع الأنشطة الترفيهية لاستقطاب السياح، فبنيت المدن الرياضية والمراكز الثقافية والفنية، لتصبح ماليزيا مركزاً عالمياً للسباقات الدولية في السيارات، والخيول، والألعاب المائية، والعلاج الطبيعي، وغيرها من المجالات التي أدخلت إيرادا تبلغ 20 مليار دولار في خلال 10 سنوات، مقابل 900 مليون دولار عام 1981.
الخروج من الأزمة:
بعد أن أصبحت ماليزيا أحد النمور الآسيوية ذات الإقتصاد القوي، كان لابدّ لصندوق النقد الدولي من محاربتها؛ ففي نهاية التسعينيات تعرضت العملة الماليزية (الرينجيت) إلى مضاربات واسعة بهدف تخفيض قيمتها، وظهرت عمليات تحويل نقدي واسعة إلى خارج ماليزيا وبالأخص من جانب المستثمرين الأجانب، وبدا أن النجاح الذي حققته ماليزيا على وشك التحول إلى كارثة، ولكنّ القرارات الحكيمة لها دور كبير في المواقف الصعبة؛ فقد قام مهاتير بفرض قيود على التحويلات النقدية خاصة الحسابات التي يملكها غير المقيمين، وفرض أسعار صرف محددة لبعض المعاملات، في الوقت الذي اتجهت فيه معظم الدول لسياسة تعويم العملة تنفيذاً لنصائح صندوق النقد الدولي الذي يتقمص دور الحكيم المشفق ويدلى بالنصائح التي تبدو في ظاهرها ناجحة ولكنها في الحقيقة قاتلة للإقتصاد ومغرقة في الديون الدولية، ورغم ضغوط البنك الدولي أصر مهاتير على سياسته التي أثبتت الأيام أنها كانت ناجحة، وبفضل الله اجتازت ماليزيـا هذه الأزمة بأقل الخسائر، بل إنّ دولاً كثيرة درست سياسته وحاولت تكرارها للإستفادة منها.
ما بعد النجاح:
في العام 2003 تفاجأ الشعب باستقالة مهاتير من منصبه وبكامل إرادته بعد 21 عاماً من النجاح المتواصل تاركاً الفرصة لغيره ليكمل خطة (عشرين عشرين) وينحو نحوها، وفضل أن يعيش في ماليزيا مثله مثل أي مواطن آخر من الطبقة الوسطى في منزل ريفي بسيط و سيارة و مرتب تقاعد ، ولكنه قد نال حب إحترام المجتمع الماليزي حتى بعد تقاعده؛ فهو رمز وطني إسلامي ومثال لقائد ناجح كان همّه الأول هو النهوض بأمّته وبذل كل ما يمكن بذله في سبيل ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق